

الدين والمجتمع
الدين والمجتمع .. نظرة جديدة للحياة
لا يمكن فهم الدين البهائي ونظرة الفرد والمجتمع البهائي للحياة وطريقة تفاعلهم مع العالم من حولهم من خلال معرفة المبادئ والاحكام والاطلاع على البعد التاريخي فقط. فالدين البهائي يركز بصورة رئيسية على خلق نظرة جديدة للحياة وترسيخ مفاهيم إنسانية وروحية عميقة تختلف في أحيان كثيرة عن تلك السائدة في المجتمعات المعاصرة. فالبهائيون يؤمنون بأن البشرية تقف على اعتاب مرحلة الرشد والبلوغ وبأن المجتمعات في أمس الحاجة لاستكشاف وتبني مفاهيم جديدة تتناسب مع الواقع البشري. هذه المفاهيم يمكن اعتبارها حجر الزاوية في الهوية والثقافة البهائية إن صح التعبير.
نتناول في هذا القسم عدد من هذه المفاهيم الأساسية التي يؤمن البهائيون بأهمية التأمل والتدبر فيها واستكشافها من خلال القراءة والتعمق والممارسة في الحياة اليومية. هذه المفاهيم تكوّن وتشكّل هوية الفرد وتساعده على تطوير ذاته والمساهمة في تطوير مجتمعه؛ وهي بالتالي تؤثر بشكل مباشر على رؤيته للحياة وتفاعله مع الذات ومع الآخرين ومع المجتمع ومع الطبيعة من حوله.

الطبيعة البشرية وحياة الروح
المتأمل في طبيعة الانسان وتطوره يرى بأنها تتكون من مزيج متناغم من طبيعتين متباينتين مادية وروحية. فهو من جهة مخلوق مادي يعيش ويتطور جسديا وفقا لقوانين الطبيعة وأحكامها، وهو في حاجة للتبحر في العلوم والمعارف والتمكن من المهارات والفنون ليتمكن من تطوير وتنمية العالم من حوله.
ومن جانب آخر فالإنسان مخلوق روحي ترتقي هويته الإنسانية عن القوانين المادية، ويترفّع بمبادئه الأخلاقية وقيمه الفردية والجماعية عن الضوابط المادية والدوافع الغريزية التي تتحكم في سائر المخلوقات. فقد تمكَّنّ الإنسان عبر تاريخه من تبنّي وتطوير مفاهيم انسانية وقيم أخلاقية عليا شكلت العمود الفقري للحضارة البشرية. هذا الجانب الروحي المنعكس من خلال المفاهيم والقيم الإنسانية المكتسبة عبر تجارب البشر وتتابع الأديان يترفع بالإنسان عن كونه مخلوقاً مادياً تنتهي حياته بانتهاء حياته البيولوجية وتمكنه من الارتقاء إلى هوية أسمى من وجوده المادي؛ هوية لا تنتهي بانتهاء سنوات حياته المادية.
"لو رزقت قليلًا من زلال المعرفة الإلهيّة لعرفت بأنَّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب لا حياةُ الجسد ..."
هذا التمازج الجميل بين الطبيعتين المادية والروحية هو الذي أكسب الإنسان رؤية وبصيرة تتجاوز حدود وجوده المادي الجسدي. بصيرة تدفعه للتميز في العلوم والمهارات والحِرَف المرتبطة بوجوده المادي ليصنع منها حضارة وعلوما ومعارف تتناقلها الأجيال في مسيرة البشرية نحو المزيد من التطور والارتقاء. ان مفاهيم من قبيل تطوير الذات من أجل تطوير الآخرين، والسعي نحو خدمة الفرد والمجتمع، والتفاني والعطاء والبذل من أجل عالم يحظى فيه الجميع بفرص لحياة كريمة، ووضع أنظمة وقوانين ترتقي بمكانة الانسان وهويته، والعمل من أجل تقارب الشعوب ونبذ التعصبات والعنف، كلها نتاج نضج الهوية الروحية للإنسان. فكلما ارتقت هذه الطبيعة الروحية كلما تجاوز الانسان غرائزه المادية ودوافعه الأنانية؛ وكلما ضعفت غلبة الطبيعة المادية عليه.
" فضل الإنسان في الخدمة والكمال لا في الزّينة والثّروة والمال، اجعلوا أقوالكم مقدّسة عن الزّيغ والهوى وأعمالكم منزّهة عن الرّيب والرّياء. قل لا تصرفوا نقود أعماركم النّفيسة في المشتهيات النّفسيّة ولا تقتصروا الأمور على منافعكم الشّخصيّة، أنفقوا إذا وجدتم واصبروا إذا فقدتم إن بعد كلّ شدّة رخاء ومع كلّ كدر صفاء، اجتنبوا التّكاهل والتّكاسل وتمسّكوا بما ينتفع به العالم من الصّغير والكبير والشّيوخ والأرامل..." حضرة بهاءالله
تؤكد التعاليم البهائية على أن الحياة الحقيقية للإنسان لا تنتهي بانتهاء حياته الجسدية. فالإنسان يسلك مسيرة نحو النمو والتكامل الروحي تستمر بعد مفارقة الروح للجسد؛ حيث تنتقل الروح إلى عوالم ملكوتيّة تجني فيها ثمارَ ما اكتسبته في حياتها الدنيوية من مكارم أخلاقية وفضائل إنسانية في طريقها نحو معرفة الله عز وجل وعبادته. بناء على ذلك ينبغي على الفرد أن يعمل في حياته من أجل نموه المادي والروحي معا ليتمكن من خلال العقل والروح معا السلوك في سبل معرفة الخالق والبحث عن الحقائق وتحرّي رسالته في الحياة ومسئوليته تجاه نفسه ومجتمعه وبني جنسه. فالحياة الايمانية الحقيقية مزيج من التعبّد والعمل.
الطبيعة البشرية
وحياة الروح

التربية الأخلاقية عبر مسيرة الحياة
الأسرة نواة المجتمع. فهي توفّر بيئة حيوية لتطوير الخصال والقدرات الايجابية وتقوية أواصر المحبة التي تجمع أعضاءها. والأسرة تجسيد عملي لحقيقة أن رفاه الفرد مرتبط ارتباطاً لا ينفصم عن تقدم ورفاه الآخرين. والأسرة هي الحاضنة الأهم لتربية الأطفال جسديا وفكريا وروحيا، والتعاليم البهائية تؤكد وبشدة على الواجب الإيماني للأب والأم تجاه تربية وتعليم أبنائهم، وبأنهما يتحملان المسؤولية الأولى تجاه تربية الابناء وبأن الإهمال في ذلك ذنب لا يغفر له لما يترتب عليه من ضرر على الفرد وعلى المجتمع.
"لا اعتبار للإقرار والتسليم قولاً والإيمان والايقان اللفظي بوحدانية الله والانتساب الصوري، بل ينبغي على احباء الله وإماء الرحمن التحلّي بفضائل الأخلاق والكمالات ..." حضرة عبدالبهاء (مترجم)
إلا أن التعاليم البهائية تشير أيضا إلى أن مسئولية التعليم والتربية لا تتوقف عند الوالدين بل تمتد إلى المجتمع من حولهم. لذا فإن المجتمعات البهائية تولي اهتماماً كبيراً بهذا الموضوع وتعتبره من ألزم واجباتها الأخلاقية والوجدانية وأكثر أمر يحتاج إلى تعاون وتكاتف الجميع والمشورة والتفكر والمراجعة من اجل تحقيقه. وكنتيجة طبيعية لهذا الواجب الإيماني والوجداني غالبا ما نرى البهائيين ينظمون مبادرات لترسيخ القيم الأخلاقية لدى الأطفال منذ نعومة اضفارهم.
فالأطفال في حاجة ماسة إلى تربية عملية منهجية لتعزيز القيم الأخلاقية الأساسية كالصدق والأمانة والمحبة والعطاء ونبذ التعصب. ومع تقدم السن تتطور هذه المبادرات لتناسب كل مرحلة عمرية. فالمراهقة المبكرة على سبيل المثال تتطلب اهتماما بزرع قيم العفة والطهارة والسلوك القويم، وتتطلب نقل هذه القيم الإنسانية من أفكار إلى ممارسة في جو إيجابي باعث للسرور، كما تستلزم أنشطة واقعية لتعزيز هذه القيم كالانخراط في العمل التطوعي لتطوير قيم المشاركة في خدمة المجتمع والوطن.
"فيكون كل منكم بمثابة شمعة تنير الجمع، وأزهارٍ ورياحينَ تنثر الرائحة الطيبة" حضرة عبدالبهاء (مترجم)
وعملية التربية الأخلاقية هذه لا تتوقف بانتهاء مرحلة الطفولة او المراهقة. فالفرد مطالب دوما أن يرتقي بقيمه وسلوكه على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع. بالتالي البهائي يجد نفسه ملزماً وجدانيا بعدم الاكتفاء بتطوير حياته المهنية واحتياجاته الخاصة؛ بل أن تكون له مساهمة صادقة في خدمة مجتمعه. فالشاب على سبيل المثال وهو يخطو خطواته الأولى نحو اختيار مجال التخصص العلمي أو تأسيس الاسرة او بدء حياته المهنية ينبغي أن يكون واعيا إلى دوره الإنساني نحو الآخرين ونحو المجتمع بصورة عامة. قد تكون الخطوة الأولى على سبيل المثال أن يأخذ هو بدوره بيد من هم أصغر منه سنا لتجاوز تحديات المراهقة وترسيخ القيم الإيجابية، وقد يتطور إلى أن يجعل خدمة المجتمع الانساني جزأً أصيلا مما يصبو إليه إلى جانب سعيه الحثيث من أجل تطوره الفكري والمهني والمادي.
"الكرم والجود من خصالي فهنيئًا لمن تزيّن بخصالي"
والجدير بالذكر بأن النظرة البهائية للعملية التربوية التي يحتاجها الفرد طوال مسيرة حياته ليست نظرة منغلقة ولا تهدف إلى التربية الدينية بالمفهوم التقليدي. لأن القيم الأخلاقية والإنسانية ليست حكرا على معتقد واحد او مجتمع محدد. وبالتالي لا يمكن للطفل او المراهق او حتى الراشد أن يطور من اخلاقه وسلوكه ويتشارك مع الآخرين من حوله إذا ما انغلق على مجتمعه الصغير أو نظر إليها من منظور ديني مرتبط بمعتقده هو فقط. فالقيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية ومفاهيمٍ من قبيل خدمة المجتمع والمواطنة الصالحة جزء من الموروث الإنساني المشترك الذي يحتاجه الجميع من أجل تقدم البشرية ولا يمكن أن يتعلمها الفرد بمفرده دون أن يتشارك فيها مع الجميع.
إنّ الدّافع للعطاء وخدمة المجتمع والوطن ينبع من محبّة الله. وبينما يمتلئ القلب بهذه المحبة، يصبح الكرم والعطاء سمة مميزة لنمط السلوك؛ فعندما يخدم الإنسان الآخرين حبًّا لله، لا يكون دافعه الأمل في التّقدير والثواب ولا الخوف من العقاب. فالحياة المتسمة بخدمة البشريّة تستلزم التّواضع والعطاء الصادق والمحبة الحقيقية، لا التّباهي ولفت الأنظار أو تحقيق المصلحة الشخصية.
التربية الأخلاقية
عبر مسيرة الحياة

الدعاء والعبادة
يؤمن البهائيون بأن الدعاء وقراءة آيات الله تواصل مباشر بين الانسان وخالقه، فهي كندى الصّباح يهب الطّراوة واللّطافة للقلوب، ويطّهر وينزّه الرّوح من علائق النفس الأمّارة، ويعزز حياته الروحانية، ومن خلالها يستطيع الفرد والمجتمع من تعزيز الرّابطة الفريدة القائمة بين الخالق والبشر. وعندما تقترن قراءة الأدعية وتلاوة الآيات بالتمعن في المعاني والتدبر فيما يرشدنا إليه الخالق عز وجل ينعكس ذلك على مجمل حياتنا ونصبح في حالة تعبدية ترتقي بالعقول والأرواح.
” إن أرقى نوعٍ من المناجاة هو الّذي يقصد منه محَبَةُ الله “ – حضرة عبدالبهاء (ترجمة)
تتطوّر الخصال الرّوحانيّة في بيئة من المحبّة والمعرفة المتنامية والمنسجمة مع التعاليم الإلهيّة. فعندما نمنح عقولنا وقلوبنا فرصة معرفة خالقها، تبدأ خصال طبيعتنا العليا بالتطور والازدهار. ويصبح بإمكاننا التميّز بوضوح متزايد بين ما يفضي إلى السّمو والرّفعة وما يؤول إلى الذّلّ والهوان؛ ونتقدّم في فهمنا للكون المادّي، والوجود الإنسانيّ، والمجتمع، وحياة الرّوح. فالمحبة تنمو بالمعرفة، والادراك الحقيقي يتعزز بالمحبة؛ بذلك يمكن تجنب الثّنائيّة الزّائفة بين القلب والعقل.
"أن اجتمعوا بالرَّوْح والرَّيْحَان ثم اتلوا آيات الرَّحمَن بها تُفْتَحُ على قلوبكم أبواب العرفان إذاً تَجدوا أنفسكم على استقامة وتَروا قلوبكم في فرح مبين" حضرة بهاءالله
لذا كثيرا ما يحرص البهائيون حول العالم على أن يتشاركوا مع أسرهم ومحبيهم واصدقائهم في الدعاء والتأمل في الآيات والكلمات الإلهية. ويزداد أثر هذا الدعاء وجماله عندما يشاطرهم فيه أصدقاء وأحبة من مختلف المعتقدات والمشارب، ليتشاركوا في مناجاة الخالق عز وجل والتأمل في الهدي الإلهي والمقاصد الربانية التي ترتقي بالنفوس وتسمو بالأفئدة وتذكرهم بما تتشارك فيه الأديان من رحمة ومودة وألفة. فتُخلق أجواء إيجابية تتعزز فيها قيم التعاون والإخاء ويتوسَّعُ من خلالها إدراك الفرد لدوره المشترك في تقدم الوطن ورخاء المجتمع والمساهمة في بناء عالم أفضل.
الدعاء والعبادة

تكامل الخدمة والعبادة .. خدمة المجتمع جزء من الحياة التعبدية
لا تكتمل العبادة إن لم تكن مقرونة بالعمل. فإدراك الفرد لكلمات الله وآياته يبقى ناقصا إن لم ينعكس ذلك على سلوكه وعمله. فمن خلال العمل والتفاعل الإيجابي مع البشر تظهر المعاني الحقيقية للتعاليم الدينية كالأمانة والصدق والصبر والعطاء، وتتكشف المفاهيم العميقة للهدي الإلهي كالعدل وعمار الأرض وتربية النشء والمساواة بين البشر. ففي ميدان العمل والتطبيق يتمكن الفرد من ممارسة تلك التعاليم والمفاهيم واختبار فهمه لمقاصدها وتطوير قدرته على العمل بها.
"اصلاح العالم كان وما يزال من الأعمال الطيبة الطاهرة والأخلاق الراضية المرضية" حضرة بهاء الله (ترجمة)
يؤمن البهائيون بأن خدمة مجتمعاتهم والمساهمة في بناء أوطانهم جزء أساسي من الايمان والحالة التعبدية التي ينبغي على الفرد المؤمن أن يتصف بها. وهم في ذلك يرون الناس جميعا باختلاف أعراقهم وأديانهم وأجناسهم إخوة لهم متساوين في الحقوق وشركاء في بناء عالم أفضل. من هذا المنطلق يلاحظ أن البهائيون في كل مكان يسعون من اجل أن تكون لهم مساهمة إيجابية مع من يحملون رغبة صادقة في بناء مجتمعاتهم وأوطانهم. لذا كثيرا ما نراهم مهتمين – كل حسب طاقاته وقدراته – ببرامج بناء القدرات الذهنية والعملية خاصة لدى النشء، وفعاليات وبرامج تنمية الفرد والمجتمع. فالمشاركة في هذه الأعمال والمساهمة في خدمة المجتمع جزء أساسي من الحياة التعبدية في المفهوم البهائي وترجمة عملية لما يتعلمه الفرد من قيم ومبادئ أخلاقية.
" قُلْ أَنِ اتَّحِدُوا فِي كَلِمَتِكُمْ وَاتَّفِقُوا فِي رَأْيِكُمْ وَاجْعَلُوا إِشْراقَكَمْ أَفْضَلَ مِنْ عَشِيِّكُمْ وغَدَكُم أَحْسَنَ مِنْ أَمْسِكُم" حضرة بهاءالله